التصريحات الغير المسئولة التي قال بها (الرئيس) عمر (البشير) قبل ايام كاشفاً فيها استعداد الحكومة لشن الحرب في جنوب السودان مرة آخرى، تؤكد أن الرجل لم يستفيد من تجربة الحرب التي خضناها جميعا كسودانيين من الجانبين وسوادنا الأعظم تأسف على الدماء العزيزة الغالية التي أريقت في تلك الأرض، والصحفيين والاعلاميين الذين كانوا هناكعلى أرض المعارك، أو على صلة بالحرب أكثرنا ألماً وتجرعاً للذنب لأننا رأينابأم أعيننا الأنفس التي رحلت والدماء التي أسيلت والأشلاء الممزقة التيانتشرت في الأرض وأكلها الدود، وأكثرنا عاش اللحظات القاسية والمؤلمةوالتي انحفرت في وجداننا مدى الحياة تظل تألمنا وتأخذ منا الكثير لأننا كناشهوداً على تلك المآسي الانسانية.كنت على صلة بالحرب في جنوب السودان مرة مُقاتل ومرة صحفي، وآخرىمتابع ومرات كثيرة مُودع للذين يغادرون إلى مناطق العمليات، ومرة مُعد برنامج(في ساحات الفداء) انقل للناس ما يجري هناك على ارض المعركة، ثم جاءتفترة كنت صديقا لعدد كبير من أسر (الشهداء) في عدد من مدن السودانوليس لي مدينة ليس لي فيها ذكرى مع شهيد أو علاقة مع أسرة شهيد أوأسرة شهيدين من بيت واحد وعشت آلام هذه الأسر، وقد ارتبطت للبعضمنهم بذكرى أبنهم، آلام واحساس بالفجيعة ليس بعده ألم ومرارة فالكثير منالأسر فارقت الاحساس بالسعادة، خاصة أن هناك آلاف الأسر التي لم تبلغحتى هذه اللحظة بحقيقة ما حدث لإبنها وهناك القتلى المجهولين الذينلا أحد يعرف لهم مكان، فالذي يديه في النار ليس كمن يده في الماء..!!.لا أذيع سراً إن قلت أن الجيش وقوات الدفاع الشعبي في جنوب السودان فيفترة من الفترات تعرُضوا لأبشع أنواع الإبادة الجماعية في حرب غير متكافئة،الأمر الذي جعل عدد كبير من (المجاهدين) المتمرسين أن يفكروا بشكل جادفي أنشاء ما عُرف بـ(القوات الخاصة للدفاع الشعبي) وقد نجحوا في هذا المسعى وقاموا بدور كبير في تغيير استراتيجية و طبيعة الحرب التي تخوضهاالحكومة ضد الجنوبيين، وجاءت فكرة انشاء هذه القوات بعد الفشل المستمروالمتكرر للحملات العسكرية التي تخوضها الحكومة.يعرف قادة الجيش السوداني في هيئة الاركان في الفترة من 1993-1996م أنأعداداً هائلة من الكتائب العسكرية قد أُبيدت على بكرة أبيها، وبسبب ذلك استند(المجاهدون) في تأسيسهم للقوات الخاصة على أن الحكومة تحارب بأعداد كبيرةتفوق الثلاثة آلاف عسكري تدخل بهم في معارك خاسرة يًقابلها في الجانبالآخر جنوداً لا يتعدون الـ 60 شخصاً وأحياناً أكثر أو أقل، برغم فارق العدد والعتادنسبة لأن جنود الحركة الشعبية يحاربون على أرضهم وهم الأدرى بطبيعة الأرضوبيئتها.لذا أقول أن حديث (الرئيس) عمر (البشير) في امكانية العودة للحرب كالعادة لم يتم بدراسة ولا تفكيروقد تعود الرئيس الذي دائما ما (تشيلة الهاشمية) التحدثبدون وعي وإدراك لعواقب ما يقول، ويدفع الشعب السوداني كله أخطاءه التيتترتب عليها دماء غالية ستهدر كما هدرت من قبل في الجنوب وفي دارفور وفيشرق السودان، فلماذا لم يعي هذا (الرئيس) خطورة اقواله وأفعاله؟.. وإلى متىهذا التخبط والشطط..؟؟.ولكن أود حقيقة من رئيس الجمهورية عمل الآتي:• أن يذهب إلى فرع العمليات العسكرية بهيئة الأركان في القيادة العامة وأن يطلع بنفسه على خسائر الجيش السوداني منذ بداية الحرب في عهده الى أن توقفت بفعل (الضغوط الامريكية)، وأنا مدرك تماماً ومتيقن أن الرئيس سيغير رأئهتماماً وأنه سوف لا يقول كلمة (الحرب) مرة أخرى على لسانه، وله أن يتأكد منالارقام، كم فقد الجيش السوداني من أرواح، وكم فقد من طائرات مقاتلة وملاحيها، وكم فقد من الأسلحة والعتاد الذي لا يمكن أن يخطر ببال أحد منالناس العاديين..!!. • وأن يذهب الى منظمة الشهيد المعنية بحقوق شهداء القوات المسلحةليتأكد بنفسه كم من إمرأة ترملت، ومن طفل فقد والده، وكم أسرة لم تستلم حقوقها، وكم أسرة شهيد تابع للقوات المسلحة ولم تعرف مكان منظمة الشهيدحتى تنال حقها الشرعي. • وأدعو الرئيس الى زيارة مكتبة مؤسسة الفداء للانتاج الاعلامي التي كانتتنتج برنامج (في ساحات الفداء) وأدعوه الى تفحص الأشرطة الخام ووأن يعيشلحظات من مشاهد القتلى المنتشرين على أرض المعارك، والأشلاء الممزقةهنا وهناك،وأطلب منه مشاهدة أشرطة متحرك (هديرالحق) الذي خاض المعارضفي جنوب النيل الازرق منطلقاً من منطقة عدارييل وكيف أن أفراد المتحرك قدقتلوا الأسرى مع صرخات(الله أكبر) وقد حرقوا البيوت المصنوعة من القش (القطاطي). • وأدعو عمر البشير وهو يدعو الى الاستعداد للحرب أن يجتمع مع جرحىالقوات المسلحة ويستمع منهم شخصياً لمعاناتهم وأهليهم، وخاصة من الذينكانوا من ضحايا الألغام الأرضية. • وكما أدعو الرئيس أن يذهب الى الجامعات السودانية ويستفسر عن أعداد الطلابالذين خرجوا من الجامعة الى ميادين القتال ولم يعودوا اليها وكانوا من ضم الذينفقدتهم البلاد مع الجرحي والمفقودين. • وأطلب من الرئيس أن يذهب الى قيادة قاعدة الخرطوم الجوية ويستفسر عنكمية الأخشاب التي كانت تأتي من الجنوب على طائرات الجيش لتباع في الخرطوم في حين يمنع الجرحى أحيانا من الصعود على الطائرة بسبب أنها تحملأخشاباً للضابط زيد أو عبيد وبكميات تجارية وشخصياً أكثر من ثلاثة مرات وأنا قادممن جنوبا كنا نجلس في الطائرة على كميات كبيرة من الخشب المقطوع بعنايةفائقة ومُعد للبيع في أسواق الخرطوم ولأجل ذلك شهدت العاصمة في فترة منالفترات انتعاش سوق السراير والكراسي الخشبية الملونة، وكان الخشب الخاميأتي في طائرات الجرحي والمعوقين، وهذا ليس خافياً على أحد وكانت تتم هذهالمسألة (عينك يا تاجر)..!!!!!. • وأطلب من الرئيس أن يجتمع بقادة السلاح الطبي في أمدرمان ويطلع علىأعداد الجرحى الذين عالجهم من بداية الحرب حتى تاريخ أيقافها،، وأقول له"ذاكرتنا قوبة جداً فلا زلت اتذكر أنه في العامين 1995و 1996م صدرت الأوامر بإخلاء كل من مستشفيات السلاح الطبي بجوبا وأمدرمان والابيض وبورتسودان لجرحىالعمليات الذين فاقت أعدادهم كل حروب السودان منذ قيامه الى اليوم، بل حتىالمستشفيات الخاصة في امدرمان استقبلت الجرحي مثل مستشفى(النيل الازرق) و(الملازمين) و،،،و،،،و،،؟؟!!.وأقول للرئيس بأي روح تستعد للحرب..؟ وبأي حقائق تذهب للقتال..؟وبأي خطط عسكرية وأهداف استراتيجية..؟، ان قرار الحرب والسلم لا بد أنتتخذ بدراسة وافية من كل الجوانب وليس العسكرية فحسب، فالأرواح التيتخوض الحرب لها أسر ومجتمع يحتاج إليها، فالحرب ليس شهوة ولا نزوة شخصيةالحرب دمار وقتل وفناء.لك أنت أيها القاري.نسمع الكثير من الناس يتألم على ما فقده السودان في معركة كرري التيأبيد فيها الآلاف من الرجال السودانيين نتيجة لتعنت من بيده القرار تماماً كما حدث ويحدث في عهد (الانقاذ) التي أدعت العمل على انقاذ الشعب فعملتعلى إبادته في الجنوب ودارفور.ومن خلال تجربة قتالية في جنوب السودان ووسط أكثر من مائتي شخص كنا المتزوجين من كل هذا العدد لا نتعدى أصابع اليد الواحدة، وفي كل المتحركاتالعسكرية كان المقاتلين من طلبة الجامعات المختلفة شباب في عمر الزهور و منهم حديثي التخرج من الطب والهندسة ومجالات كثيرة واعدة، ومنهم طلبةثانوي صغار السن كانوا برفقتنا، فكنت كثير الاستغراب من هذه المفارقات، لكنالمفارقة العجيبة كمية الدوافع التي يحملها الشباب في انخراطهم في القتالواستبسالهم ومرات كثيرة أقول في نفسي ماذا لو كل هولاء الشباب الطاقاتالقوية لو انها عملت من أجل نهضة السودان في الجنوب وفي الشمال وساير مناطق الوطن، ماذا لو أن كل هذا الحرص والموت في سبيل الفكرة ولو تحول هذا الاصرار الجميل والاندفاع الشديد الى الموت في سبيل أحياء السودانوجعله في قمة دول العالم..؟؟،كلن دائما أشعر بأن من بيد الحكم عليه أنيفكر أكثر في حقن دماء الوطن لمصلحة الوطن.وجاءت تلك التصريحات في الشهر الذي أبكي فيه كل عام وأزرف دموع الحزنالسخية على مجموعة من الأخوة الأشقاء الأحباب الذين فقدناهم في مثلهذه الايام في جنوب السودان في العام 1995م، وكنا في شهر نوفمبر الأليموالذي زاده (الرئيس) ألماً وفجيعة، تأتي ذكرى الأحباء الى النفس الذي خاضواأشرع المعارك منهم يوسف سيد وحمدي مصطفي والمعز عبادي وسلسلةطويلة لا تنتهي حتى جاء شهر ديسمبر 1995م حيث تواصلت قوافل الراحلينحسين سرالختم (دبشك)، والبادرابي،ومسيرة عثمان، المنصوري، ابوالقاسم عيدالروس، معاوية (أبوتراب)، لفيف متصل ذهبت بهم الحرب اللعينة.وعندما كنت أقراء في (الخليج) الإماراتية جزاء مقتطع من الخبر يقول "وأوضحالرئيس السوداني الذي تلقى البيعة من المجاهدين “تجديدا للعهد وصونالمكتسبات الأمة وحماية العقيدة”، في لهجة حماسية، أن انتصارات المجاهدينكانت بسلاح “الله أكبر” من المجاهدين والدبابيين والقوات المسلحة والشرطةالموجودة حتى حققنا الانتصار في جبال النوبة والنيل الأزرق وكان الانتصار المدوي في توريت".آآآه يا توريت كم فيك نجم رحل وكم ألف أسرة فقدت عائلها، وكم عشرة ألفطفل تيتّم، وكم ألف أم ثكلت، وكم زوجة ترملت، والكل يعلم عسكريين وغيرعسكرين أن (توريت) كانت غالية أي كلفت الكثير من الرجال.لا نريد أن نتحدث عن الآثار الناجمة للحروب على المجتمع بكامله أطفالاً ونساءً و لكنني أحسب أننا في حاجة ماسة إلى فتح ملفات الحرب في جنوبالسودان بكل الوضوح والأمانة وأحسب أن عدداً كبيراً من ضباط الجيش يمكنأن يتحدثوا في هذا الموضوع ويخرجوا ما في جعبتهم من معلومات، والتييمكن أن تُكفر عن ذنوبهم، وأدعوهم الآن قبل الغد..وهذه دعوة مفتوحة وأهدف من خلالها جعل الشباب المتحمس على بيئة من أمره فإذا اختار قرار المشاركة في هذه الحرب يتحمل مسئولية هذا القرار،وليدرك الشباب أن هذه الحرب الذي يجيش لها ما هي إلا فتنة لتقلالمعارضين للحكومة والوطن والدين منها براء..