[size=18]
رغم أنه أبرز دعاة الديمقراطية في السودان، فإن خصومه يصفونه بأنه ديكتاتور مدني بمجرد وصوله الى الحكم. إنه الصادق المهدي رئيس وزراء السودان الأسبق، وإمام طائفة الأنصار ورئيس حزب الأمة السوداني.
ولد الصادق المهدي في أم درمان في 25 ديسمبر عام 1935 في اليوم ذاته الذي ولد فيه المسيح، ويجتمع فيه كل تناقضات السودان وأهله. هذا البلد الذي يضع قدما في العصور القديمة المليئة بالدراويش والطائفية والطبقية والاسترقاق والسحر، والقدم الأخرى في القرن الحادي والعشرين، حيث المطالبة بالديمقراطية والمساواة والعلمانية، وتخطي ميراث العنصرية البغيض.
يجمع الصادق المهدي بين هذه المتناقضات، فهو سليل أعرق عائلات السودان حفيد الخليفة حمد المهدي الذي كان أول سوداني يوحد هذا الكيان الكبير في بوتقة واحدة. الصادق المهدي ابن أسرة بنت مجدها على خلطة من الدين والطائفية والإقطاعية ومناهضة الاستعمار، ثم التعايش معه. وفي الوقت ذاته فإن الصادق المهدي تلقّى تعليما راقيا، فهو خريج "كلية فكتوريا" بالأسكندرية، وحاصل على الماجستير في الاقتصاد والعلوم من جامعة أوكسفورد البريطانية.
وصفه الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري حين تولى المهدي بالمستعجل. فالصادق كان دوما يتعجل حكم السودان الذي يرى أنه بحكم النسب والتعليم والشخصية، هو الأحق برئاسة السودان أنه أحق الناس به. وكان يؤهل نفسه منذ الصغر لحكمه، فاهتم بالتعليم والثقافة. ولقد تمكن بالفعل بفضل هذه العجلة من رئاسة الحكومة لأول مرة في عام 1965 قبل أن يتجاوز الثلاثين عاما.
وثار المهدي في شبابه على الطائفية، بل إنه لم يكتف بذلك، فابن أوكسفورد أراد أن ينقل التجربة البريطانية الحداثية إلى السودان بنظامه الاجتماعي العتيق، فظهرت دعوته لما يسمى "السندكالية" وهى محاولة لسودنة تجربة حزب العمل والحركة النقابية في السودان.
كانت دعوة الصادق سليل آل المهدي وخريج أكسفورد، للفصل بين الطائفة والحكومة، هي دعوة في ظاهرها حداثية، وفي باطنها قد تكون شخصية. فقد شق المهدي عصا الطاعة على عمه الهادي إمام الأنصار خلال الستينيات، وشرع في الهجوم السافر عليه والتنديد بالطائفية لكونها العقبة التي تعترض مشروعه لتحديث حزب الأمة، مطالبا بفصم العلاقة بين السلطة السياسية ممثلة في الحزب، وبين السلطة الطائفية ممثلة في إمامة الأنصار، وذلك تحت شعار أعطِ "ما لقيصر لقيصر وما لله لله".
وانتهى الصراع الأهلي بين الإمام الهادي المهدي، وبين ابن أخيه الصادق المستعجل دائما، بعزلة الصادق وسقوطه أمام مرشح الإمام في الانتخابات. ثم اتهمه مؤيدو الإمام بأنه ساهم في تسهيل المجزرة التي ألحقها النميري بالإمام الهادي وأنصاره بجزيرة "أبا"، لأنه من خلال هجومه على الإمام أعطى النميري التغطية السياسية للقيام بتصفية ثروة ونفوذ آل المهدي، وصولا إلى ارتكاب هذه المجزرة بحقهم. برغم أن الصادق المهدي حاول إقناع عمه بتجنب هذه المعركة غير المتكافئة.
أما الصادق المهدي، فقد قام بعد عقود بالجمع بين منصبي إمامة طائفة الأنصار، وزعامة حزب الأمة مثل عمه الهادي الذي كان يعيب عليه ذلك. معتمدا على أن ذاكرة الأتباع دائما ما تكون ضعيفة.. كما أصبح من أشد دعاة الطائفية، وسعى إلى إشعال جذوتها بعد سقوط حكم النميري الذي حاربها.
ولم تخفض التجارب المريرة من عجلة المهدي الملحة في الوصول الى الحكم. فخلال حكم النميري الدكتاتوري قام بكثير من المغامرات السياسية والعسكرية التي أودت بحياة كثير من أنصاره. مثل محاولة اقتحام الخرطوم عام 1976 التي راح ضحيتها عشرات القتلى من العسكريين والمدنيين، دون أن يحقق أهدافه في قلب النظام. كما انضم بقوات "الأنصار" عقب انقلاب البشير والترابي إلى قوات المعارضة السودانية، بقيادة جون جارانج زعيم "الحركة الشعبية لتحرير السودان".
شوق المهدي الى السلطة جعله يسارع دائما للقيام بمبادرات وإصلاحات مع النظم الدكتاتورية، بعد فشل المحاولات العسكرية. أما هو فيقول إنه يعشق السودان السلطة، وأنه أكثر زعيم قضى وقته في المعارضة وفي السجن.
المهدي كان الزعيم السوداني الأكثر تضررا من أزمة دارفور، لأن دارفور كانت أحد المعاقل الأساسية للأنصار وحزب الأمة الذي حيث يتركز نفوذ الأسرة المهدية في غرب السودان، حيث ساهمت هذه الطائفة كغيرها من الطرق الصوفية بالسودان في الجمع بين أبناء شمال السودان من العرب والأفارقة الذين لا يجمعهم سوى الدين والثقافة العربية تحت مظلة الطائفة.
فكانت الطائفة هوية مؤقتة، حتي تنضج الهوية السودانية، فجاءت الجبهة الإسلامية ومن قبلها كثير من القوى المسماة "تقدمية"، تريد القضاء على الطائفية من أجل بناء الوطن، فقضت على الطائفية وعلى الوطن معا.
الصادق المهدي اعترف بعد زمن بخطأ رغبته في تطبيق الليبرالية الغربية في السودان دون التكيف مع الوضع السوداني، ولكن المهدي دائما يتعلم من أخطائه بعد وقوعها.
طول ابتعاد المهدي عن السلطة، وتقلباته بين المعارضة الشديدة وبين مهادنة نظام البشير، ساعد على ظهور انشقاقات داخل حزبه. وبرغم هيبته وثقافته وفصاحته وغياب شخصية منافسه له داخل الحزب، فقد ذاق من نفس الكأس الذي أذاقه لعمه الهادي. إذ انشق عن زعامة الصادق ابن عمه مبارك الفاضل المهدي الذي كان الرجل الثاني في الحزب، وتحالف مع نظام البشير ليؤسس حزب الأمة الإصلاح.
برغم أن نسب الصادق المهدي يعود إلى الثائر الكبير محمد المهدى الذي ثار على الحكم المصري، ومن بعده البريطاني للسودان. وطرد الإنجليز من الخرطوم، وكان أقرب في فكره إلى الثوار العرب من قوميين وإسلاميين، إلا أن آل المهدي تحولوا مع الزمن والخطوب التي حلت بهم من ثوار إلى أسرة سياسية أرستقراطية، يمكن أن تتعامل مع أي طرف حتى لو كان المحتل أو الدكتاتور؛ للحفاظ على مكاسبها الاقتصادية والسياسية، ليتحول النظام الاجتماعي للسودان إلى حالة تشبه لبنان.
وتشرب الصادق المهدي ألاعيب السياسية من جده عبد الرحمن المهدي الذي كان منفيا بعد الثورة المهدية في الخرطوم، ثم هادن الإنجليز فأعادوا الى المهديين أملاكهم.
علاقة المهدي بمصر علاقة غريبة، فهو كما يقول يوسف الشريف المتخصص في الشئون السودانية، هي علاقات تتراوح بين العقلانية والتوازن والعمل على نسج علاقات طيبة مع شعبها وحكوماتها. وذلك كلما كان خارج السلطة، شديد الغضب من مصر دائم الشجار معها، كلما تهيأت أمامه فرص السلطة والإمساك بتلابيب القرار السوداني.
ويبدو أن المهدي برغم علمه، مازال متأثرا بالثأر القديم بين آل المهدي والسلطة المصرية في عهد أسرة محمد علي التي حكمت السودان، برغم أنه يعلم أن هذه السلطة كانت تقمع المصريين قبل السودانيين.
مثله مثل الغالبية الكاسحة من السياسين العرب حكاما ومعارضين على السواء، فإن المهدي يمهد الطريق لأبنائه لخلافته. وبنفس المنطق السائد وهو الإعلان عن رفض التوريث، مع التأكيد على أن من حق أبنائه تولي المناصب في الحزب مادامت تتوافر فيهم الكفاءة. وهو يرى أن هناك عشرين كادرا في حزبه مؤهلين لتولي مناصب قيادية، منهم أربعة من أبنائه، أي نسبة أبنائه في كفاءات الحزب 20 %.
يسعى المهدي الى ربط نفسه بالماضي والحاضر بالحداثة والمعاصرة بعلمه وثقافته وعراقة نسبه. فهو يعتبر أنه أخرج السياسة السودانية من الحارات إلى العالم، وفي الوقت ذاته فإنه يعتبر نفسه إصلاحيا إسلاميا، برغم أنه صراع الأكبر كان ضد قوى تنازعه الساحة الإسلامية بدءا من النميري إلى حكم الإنقاذ.
وإذا كان أهم إنجازاته هو إعادة هيكلة الحركة المهدية، كما يقول إلا أن البلد الذي طالما تعجل حكمه، يبدو أنه لن يظل موحدا حينما سحيكمه المهدي. إذ يقترب موعد الاستفتاء الذي يحدد مصير جنوب السودان، فيما تستمر الأزمة في دارفور برغم المبادرات المتعددة. في حين يرفض المهدي إحالة خصمه البشير الى المحكمة الجنائية الدولية ليس حبا في شخصه، ولكن رغبة في الحفاظ على تركته إلى أن تؤول إلى سليل الأكرمين.
[/size]
عدل سابقا من قبل شلاقة في السبت 31 أكتوبر 2009, 8:27 pm عدل 2 مرات