المستطرف في كل فن مستظرف - (ج 1 / ص 20)
قال الله تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " فاطر: 28، وقال تعالى: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " المجادلة: ا ا،. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعلموا العلم فإن تعلمه لله حسنة ودراسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه عبادة، وتعليمه صدقة، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، وبيان سبيل الجنة، والمؤنس في الوحشة، والمحدث في الخلوة، والجليس في الوحدة، والصاحب في الغربة، والدليل على السراء، والمعين على الضراء، والزين عند الأخلاء، والسلاح على الأعداء، بالعلم يبلغ العبد منازل الأخيار في الدرجات العلى، ومجالسة الملوك في الدنيا، ومرافقة الأبرار في الآخرة، والفكر في العلم لعدل الصيام، ومذاكرته تعدل القيام، وبالعلم توصل الأرحام وتفصل الأحكام، وبه يعرف الحلال والحرام، وبالعلم يعرف الله ويوحد، وبالعلم يطاع الله ويعبد.
قيل: العلم درك حقائق الأشياء مسموعاً ومعقولاً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " خير الدنيا والآخرة مع العلم وشر الدنيا والآخرة مع الجهل " ، وعنه عليه الصلاة والسلام: " يوزن مداد العلماء ودماء الشهداء يوم القيامة فلا يفضل أحدهما على الآخر، ولغدوة في طلب العلم أحب إلى الله من مائة غزوة، ولا يخرج أحد في طلب العلم إلا وملك موكل به. يبشر بالجنة، ومات مات وميراثه المحابر والأقلام دخل الجنة " ، وقال علي كرم الله وجهه: " أقل الناس قيمة أقلهم علماً " ، وقال أيضاً رضي الله عنه: " العلم نهر والحكمة بحر والعلماء حول النهر يطوفون والحكماء وسط البحر يغوصون والعارفون في سفن النجاة يسيرون، وقال موسى عليه السلام في مناجاته: " إلهي من أحب الناس إليك؟ قال: عالم يطلب علماً، وقال بعض السلف رضي الله عنهم: العلوم أربعة: الفقه للأديان، والطب للأبدان، والنجوم للأزمان، والنحو للسان، وقيل: العالم طبيب هذه الأمة والدنيا داؤها، فإذا كان الطبيب يطلب الداء فمتى يبرىء غيره.
وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا علم لي بها، ققيل له: لا تستحي، فقال: ولم أستحي مما لم تستح الملائكة منه حين قالت لا علم لنا، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " ، وروي: كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وقال علي كرم الله وجهه: من نصب نفسه للناس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، وقيل: مؤدب نفسه ومعلمها أحق بالإجلال من مؤدب الناس ومعلمهم، وأ نشدوا:
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى ... كيما يصح به وأنت سقيم
ونراك تصلح بالرشاد عقولنا ... أبداً وأنت من الرشاد عديم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقول ويهتدى ... بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
وقال بعضهم:
إني رأيت الناس في عصرنا ... لا يطلبون العلم للعلم
إلا مباهاة لأصحابه ... وعدة للغش والظلم
نظر رجل إلى امرأته وهي صاعدة في السلم، فقال لها: أنت طالق إن صعدت، وطالق إن نزلت، وطالق إن وقفت، فرمت نفسها إلى الأرض، فقال لها: فداك أبي وأمي إن مات الإمام مالك احتاج إليك أهل المدينة في أحكامهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هلاك أمتي في شيئين: ترك العلم وجمع المال " . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أفضل الأعمال فقال: العلم بالله، والفقه في دينه ، وكررها عليه، فقال يا رسول الله: أسألك عن العمل، فتخبرني عن العلم، فقال: " إن العلم ينفعك معه قليل العمل، وإن الجهل لا ينفعك معه كثير العمل " . وقال عيسى عليه السلام: من علم وعمل عد في الملكوت الأعظم عظيماً.
المستطرف في كل فن مستظرف - (ج 1 / ص 21)
وقال الخليل عليه السلام: العلوم أقفال والأسئلة مفاتيحها، وعنه عليه السلام: زلة العالم مضروب بها الطبل، وزلة الجاهل يخفيها الجهل، وقال الحسن: رأيت أقواماً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: من عمل بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه، والعامل بغير علم كالسائر على غير طريق، فاطلبوا العلم طلباً لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلباً لا يضر بالعلم، وقال يزيد بن ميسرة: من أراد بعلمه وجه الله تعالى أقبل الله بوجهه ووجوه العباد إليه، ومن أراد بعلمه غير وجه الله صرف الله وجهه ووجوه العباد عنه، وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ألا أخبركم بأجود الأجواد، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الله أجود الأجواد، وأنا أجود ولد آدم، وأجود من بعدي رجل علم علماً فنشره، يبعث يوم القيامة أمة وحده، ورجل جاد بنفسه في سبيل الله حتى قتل. وقال الثوري: كان يقال: العالم الفاجر فتنة لكل مفتون، عن الفضيل رحمه الله تعالى أنه قال: لو أن أهل العلم أكرموا أنفسهم وأعزوا هذا العلم وصانوه وأنزلوه حيث أنزله الله إذاً لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقاد لهم الناس، وكانوا لهم تبعاً، ولكنهم أذلوا أنفسهم وبذلوا علمهم لأبناء الدنيا فهانوا وذلوا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فأعظم بها مصيبة والله أعلم، وللقاضي العلامة أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني وقد أحسن كل الإحسان كأنما طرزت في خلع حسان:
ولم أقض حق العلم إن كنت كلما ... بدا طمع صيرته لي سلما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لآخذ من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة ... إذاً فأتباع الجهل قد كان أسلما
فإن قلت زند العلم كاب فإنما ... كبا حين لم نحرس حماه وأظلما
لو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهونوا ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما
وقيل: من لم يتعلم في صغره لم يتقدم في كبره، وقال الفضيل: شر العلماء من يجالس الأمراء، وخيرالأمراء من يجالس العلماء، وقال لقمان: جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بماء السماء، قيل: من عرف بالحكمة لاحظته العيون بالوقار، وكان ابن مسعود رضي الله عنه إذا رأى طالبي العلم قال: مرحباً بكم ينابيع الحكمة ومصابيح الظلمة، خلقان الثياب جلا القلوب، رياحين كل قبيلة، وقال علي رضي الله عنه: كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لا يحسنه، ويفرح به إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ضعة أن يتبرأ منه من هو فيه ويغضب إذا نسب إليه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما آتى الله أحداً علماً إلا أخذ عليه الميثاق أن لا يكتمه أحداً " ، ودعا بعضهم لآخر فقال: جعلك الله ممن يطلب العلم رعاية لا رواية، وممن يظهر حقيقة ما يعلمه بما يعمله، وعن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " على باب الجنة شجرة تحمل ثماراً كثدي النساء، يخرج من تحتها عين ماء يشرب منها العلماء والمتعلمون مثل اللبن الحليب، والناس عطاش " وعن ابن مسعود رضي الله عنه، من تعلم باباً من العلم ليعلمه للناس ابتغاء وجه الله أعطاه الله أجر سبعين نبياً، وعن أنس رضي الله عنه، عن رسول صلى الله عليه وسلم: " ويل لأمتي من علماء السوء، يتخذون العلم تجارة يبيعونها لا أربح الله تجارتهم " .
شعر:
العلم أنفس شيء أنت داخره ... من يدرس العلم لم تدرس مفاخره
أقبل على العلم واستقبل مقاصده ... فأول العلم إقبال وآخره
قال الشعبي: دخلت على الحجاج حين قدم العراق، فسألني عن اسمي، فأخبرته، ثم قال: يا شعبي: كيف علمك بكتاب الله؟ قلت: عني يؤخذ، قال: كيف علمك بالفرائض؟ قلت: إلي فيها المنتهى، قال: كيف علمك بأنساب الناس؟ قلت: أنا الفيصل فيها، قال: كيف علمك بالشعر؟ قلت: أنا ديوانه، قال: لله أبوك، وفرض لي أموالاً، وسودني على قومي، فدخلت عليه وأنا صعلوك من صعاليك همدان، وخرجت وأنا سيدهم.
قال البستي:
إذا لم يزد علم الفتى قلبه ... هدى وسيرته عدلاً وأخلاقه حسناً
المستطرف في كل فن مستظرف - (ج 1 / ص 22)
فبشره أن الله أولاه فتنة ... تغشيه حرماناً وتوسعه حزنا
وقال الهيثم بن جميل: شهدت مالك بن أنس رضي الله عنه، سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري، وقال الأوزاعي: شكت النواويس إلى الله تعالى ما تجد من نتن ريح الكفار، فأوحى الله إليها بطون علماء السوء أنتن مما أذتم فيه، وقال علي رضي الله عنه: من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض، ولصالح اللخمي شعر:
تعلم إذا ما كنت لست بعالم ... فما العلم إلا عند أهل التعلم
تعلم فإن العلم أزين للفتى ... من الحلة الحسناء عند التكلم
ودخل عبد الله بن مسلم الهذلي على المهدي في القراءة فأخذ عشرة آلاف درهم، ثم دخل في الرماة، فأخذ عشرة آلاف درهم، ثم دخل في المغنين فأخذ كذلك، ثم دخل في القصاص فأخذ كذلك، فقال المهدي: لم أر كاليوم أجمع لما يجمع الله في أحد منك. ومل جماعة من الحكماء مجالسة رجل فتواروا عنه في بيت فرقي السطح، وجعل يستمع من كوة، حتى وقع عليه الثلج، فصبر، فشكر الله ذلك، فجعله إمام الحكماء لا يختلفون في شيء إلا صدروا عن رأيه، وشكا رجل إلى وكيع بن الجراح سوء الحفظ، فقال له: استعن على الحفظ بترك المعاصي، فأنشأ يقول:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وذلك أن حفظ العلم فضل ... وفضل الله لا يؤتى لعاصي
ووجد في بعض الآثار عن بعضهم أنه قال: إذا أردت أن تكون أحفظ الناس فقل عند رفع الكتاب أو المصحف أو ابتداء القراءة في كل شيء أردت، بسم الله وسبحان الله، ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عدد كل حرف كتب ويكتب أبد الآبدين، ودهر الداهرين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قيل: وإذا أردت أن لا تنسى حرفاً فقل قبل القراءة: اللهم افتح علينا حكمتك، وانشر علينا رحمتك يا ذا الجلال والإكرام. وإذا أردت أن ترزق الحفظ فقل خلف كل صلاة مكتوبة: آمنت بالله الواحد الأحد الحق لا شريك له وكفرت بما سواه.
ومن فوائد سيدي الشيخ صالح شهاب الدين أحمد بن موسى بن عجيل رحمه الله تعالى في الحفظ يقرأ في كل يوم عشر مرات " ففهمناها سليمان وكلاً أتينا حكماً وعلماً " إلى قوله تعالى: " وكنا فاعلين " يا حي يا قيوم يا رب موسى وهارون، ويا رب إبراهيم، ويا رب محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام، ألزمني الفهم وارزقني العلم والحكمة والعقل، برحمتك يا أرحم الراحمين. وعن أبي يوسف قال: مات لي ولد فأمرت من يتولى دفنه ولم أدع مجلس أبي حنيفة خوفاً أن يفوتني منه يوم وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بالحديث، ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري حتى كان يقال: إن حديثاً لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث، وقال البخاري رحمه الله تعالى: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، وقال ما وضعت كتابي الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتان، وقال: أخرجته من ستمائة ألف حديث، وصنفته في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى. وقال مجاهد: أتينا عمر بن عبد العزيز لنعلمه، فما برحنا حتى تعلمنا منه، وكان يقال الليث بن سعد رحمه الله تعالى ذهب علمه كله بموته، ولهذا قال الشافعي لما قدم مصر بعد موته: والله لأنت أعلم من مالك وإنما أصحابك ضيعوك، وقال الليث بن سعد: ما هلك عالم قط إلا ذهب ثلثا علمه ولو حرص الناس. ويقال: إذا سئل العالم فلا تجب أنت، فإن ذلك استخفاف بالسائل والمسؤول، وقالوا: من خدم المحابر خدمته المنابر.
شعر:
لا تدخر غير العلو ... م فإنها نعم الذخائر
فالمرء لو ربح البقا ... ء مع الجهالة كان خاسر
وللشافعي رضي الله تعالى عنه شعر:
أخي لن تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن ثفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة ... وصحبة أستاذ وطول زمان
المستطرف في كل فن مستظرف - (ج 1 / ص 23)
وقال الزهري: العلماء أربعة، سعيد بن المسيب بالمدينة، وعامر الشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام، وقال بعضهم: العلماء سرج الأزمنة كل عالم سراج زمانه يستضيء به أهل عصره، وقيل لإبراهيم بن عيينة: أي الناس أطول ندامة. قال: أما في الدنيا فصانع المعروف إلى من لا يشكره، وأما في الآخرة فعالم مفرط.
شعر:
كن عالماً وارض بصف النعال ... ولا تكن صدراً بغير الكمال
فإن تصدرت بلا آلة ... صيرت ذاك الصدر صف النعال
وقيل: لما اجتمع موسى بالخضر عليهما السلام، جاء عصفور فأخذ بمنقاره من البحر قطرة ثم حط على ورك الخضر، ئم طار فنظر الخضر إلى موسى عليه السلام وقال: يا نبي الله إن هذا العصفور يقول يا موسى أنت على علم من علم الله علمكه الله لا يعلمه الخضر، والخضر على علم من علم الله علمه إياه لا تعلمه أنت وأنا على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه أنت ولا الخضر، وما علمي وعلمك وعلم الخضر في علم الله إلا كهذه القطرة من هذا البحر. قال الله تعالى: " ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " البقرة: 255، وقال تعالى: " وما يعلم جنود ربك إلا هو " المدثر: 31،. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: خلق الله تعالى أربعين ألف عالم، الإنس والجن عالمان، والبواقي لا يعلمها إلا هو، وقال موسى عليه السلام: يا رب قد قلت للسموات والأرض " ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينها طائعين " ، فلو لم تطعك السموات والأرض ماذا كنت فاعلاً بهما. قال: " يا موسى كنت آمر دابة من دوابي أن تبتلعهما، قال موسى: يا رب وأين تلك الدابة؟ قال: في مرج من مروجي، قال موسى: يا رب وأين ذلك المرج؟ قال: في علم من علمي لا يعلمه إلا أنا. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في فكرة، فقال: " فيم تفكرون؟ تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله، فإن الله خلق من جانب العرب أرضاً يقال لها البيضاء، تقطعها الشمس في أربعين يوماً، فيها خلق ما عصوا الله طرفة عين، فقال ابن عمر: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أين إبليس منهم؟ قال: ما علموا بإبليس خلق أم لا. قال: أمن بني آدم؟ قال: ما علموا بآدم خلق أم لا، فهذه كلها مما أعدها الله في علم غيبه، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون " . وقال قتادة: لو كان أحد منا مكتفياً من العلم لاكتفى نبي الله موسى عليه السلام إذ قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً. وقال الحكماء أفضل العلم وقوف العالم عند علمه، وقال بعضهم: ليس العلم ما خزنته الدفاتر وإنما العلم ما خزنته الصدور، وقيل: العلم يؤدي إلى التصدير، وقيل: من تواضع للعلم ناله ومن لم يتواضع له لم ينله، وقيل: من برق علمه برق وجهه ومن لم يستفد بالعلم مالاً اكتسب به جمالاً، العلم نور وهدى، والجهل غي وردى. وقال بعضهم: العالم يعرف الجاهل، والجاهل لا يعرف العالم، لأن العالم كان جاهلاً، والجاهل لم يكن عالماً. وقيل: أربعة يسودون العبد: العلم والأدب والصدق الأمانة، وقيل: أهل العراق أطلب الناس للعلم. وقال حماد بن سلمة: مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف النحو كمثل الحمار عليه مخلاة لا شعيرفيها.
ولإبراهيم بن خلف المهراني:
النحو يصلح من لسان الألكن ... والمرء تكرمه إذا لم يلحن
وإذا طلبت من العلوم أجلها ... فأجلها منها مقيم الألسن
وقال علي بن بشار:
رأيت لسان المرء آية عقله ... وعنوانه فانظر بماذا تعنون
ولاتعد إصلاح اللسان فإنه ... يخبر عما عنده ويبين
ويعجبني زي الفتى وجماله ... فيسقط من عيني ساعة يلحن
ودخل أعرابي السوق فوجدهم يلحنون فقال: سبحان الله يلحنون ويربحون. وكلم أبو موسى بعض قواده فلحن، فقال: لم لا تنظر في العربية؟ فقال: بلغني أن من نظر فيها قل كلامه، فقال: ويحك لأن يقل كلامك بالصواب خير لك من أن يكثر كلامك بالخطأ. وكان يقال: مجالسة الجاهل مرض للعاقل. وقال أبو الأسود الدؤلي إذا أردت أن تعذب عالماً فافرق به جاهلاً. وقال الشاعر:
جهلت ولا تدري بأنك جاهل ... ومن لي بأن تدري بأنك لا تدري
قال الله تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " فاطر: 28، وقال تعالى: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " المجادلة: ا ا،. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعلموا العلم فإن تعلمه لله حسنة ودراسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه عبادة، وتعليمه صدقة، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، وبيان سبيل الجنة، والمؤنس في الوحشة، والمحدث في الخلوة، والجليس في الوحدة، والصاحب في الغربة، والدليل على السراء، والمعين على الضراء، والزين عند الأخلاء، والسلاح على الأعداء، بالعلم يبلغ العبد منازل الأخيار في الدرجات العلى، ومجالسة الملوك في الدنيا، ومرافقة الأبرار في الآخرة، والفكر في العلم لعدل الصيام، ومذاكرته تعدل القيام، وبالعلم توصل الأرحام وتفصل الأحكام، وبه يعرف الحلال والحرام، وبالعلم يعرف الله ويوحد، وبالعلم يطاع الله ويعبد.
قيل: العلم درك حقائق الأشياء مسموعاً ومعقولاً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " خير الدنيا والآخرة مع العلم وشر الدنيا والآخرة مع الجهل " ، وعنه عليه الصلاة والسلام: " يوزن مداد العلماء ودماء الشهداء يوم القيامة فلا يفضل أحدهما على الآخر، ولغدوة في طلب العلم أحب إلى الله من مائة غزوة، ولا يخرج أحد في طلب العلم إلا وملك موكل به. يبشر بالجنة، ومات مات وميراثه المحابر والأقلام دخل الجنة " ، وقال علي كرم الله وجهه: " أقل الناس قيمة أقلهم علماً " ، وقال أيضاً رضي الله عنه: " العلم نهر والحكمة بحر والعلماء حول النهر يطوفون والحكماء وسط البحر يغوصون والعارفون في سفن النجاة يسيرون، وقال موسى عليه السلام في مناجاته: " إلهي من أحب الناس إليك؟ قال: عالم يطلب علماً، وقال بعض السلف رضي الله عنهم: العلوم أربعة: الفقه للأديان، والطب للأبدان، والنجوم للأزمان، والنحو للسان، وقيل: العالم طبيب هذه الأمة والدنيا داؤها، فإذا كان الطبيب يطلب الداء فمتى يبرىء غيره.
وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا علم لي بها، ققيل له: لا تستحي، فقال: ولم أستحي مما لم تستح الملائكة منه حين قالت لا علم لنا، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " ، وروي: كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وقال علي كرم الله وجهه: من نصب نفسه للناس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، وقيل: مؤدب نفسه ومعلمها أحق بالإجلال من مؤدب الناس ومعلمهم، وأ نشدوا:
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى ... كيما يصح به وأنت سقيم
ونراك تصلح بالرشاد عقولنا ... أبداً وأنت من الرشاد عديم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقول ويهتدى ... بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
وقال بعضهم:
إني رأيت الناس في عصرنا ... لا يطلبون العلم للعلم
إلا مباهاة لأصحابه ... وعدة للغش والظلم
نظر رجل إلى امرأته وهي صاعدة في السلم، فقال لها: أنت طالق إن صعدت، وطالق إن نزلت، وطالق إن وقفت، فرمت نفسها إلى الأرض، فقال لها: فداك أبي وأمي إن مات الإمام مالك احتاج إليك أهل المدينة في أحكامهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هلاك أمتي في شيئين: ترك العلم وجمع المال " . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أفضل الأعمال فقال: العلم بالله، والفقه في دينه ، وكررها عليه، فقال يا رسول الله: أسألك عن العمل، فتخبرني عن العلم، فقال: " إن العلم ينفعك معه قليل العمل، وإن الجهل لا ينفعك معه كثير العمل " . وقال عيسى عليه السلام: من علم وعمل عد في الملكوت الأعظم عظيماً.
المستطرف في كل فن مستظرف - (ج 1 / ص 21)
وقال الخليل عليه السلام: العلوم أقفال والأسئلة مفاتيحها، وعنه عليه السلام: زلة العالم مضروب بها الطبل، وزلة الجاهل يخفيها الجهل، وقال الحسن: رأيت أقواماً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: من عمل بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه، والعامل بغير علم كالسائر على غير طريق، فاطلبوا العلم طلباً لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلباً لا يضر بالعلم، وقال يزيد بن ميسرة: من أراد بعلمه وجه الله تعالى أقبل الله بوجهه ووجوه العباد إليه، ومن أراد بعلمه غير وجه الله صرف الله وجهه ووجوه العباد عنه، وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ألا أخبركم بأجود الأجواد، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الله أجود الأجواد، وأنا أجود ولد آدم، وأجود من بعدي رجل علم علماً فنشره، يبعث يوم القيامة أمة وحده، ورجل جاد بنفسه في سبيل الله حتى قتل. وقال الثوري: كان يقال: العالم الفاجر فتنة لكل مفتون، عن الفضيل رحمه الله تعالى أنه قال: لو أن أهل العلم أكرموا أنفسهم وأعزوا هذا العلم وصانوه وأنزلوه حيث أنزله الله إذاً لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقاد لهم الناس، وكانوا لهم تبعاً، ولكنهم أذلوا أنفسهم وبذلوا علمهم لأبناء الدنيا فهانوا وذلوا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فأعظم بها مصيبة والله أعلم، وللقاضي العلامة أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني وقد أحسن كل الإحسان كأنما طرزت في خلع حسان:
ولم أقض حق العلم إن كنت كلما ... بدا طمع صيرته لي سلما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لآخذ من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة ... إذاً فأتباع الجهل قد كان أسلما
فإن قلت زند العلم كاب فإنما ... كبا حين لم نحرس حماه وأظلما
لو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهونوا ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما
وقيل: من لم يتعلم في صغره لم يتقدم في كبره، وقال الفضيل: شر العلماء من يجالس الأمراء، وخيرالأمراء من يجالس العلماء، وقال لقمان: جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بماء السماء، قيل: من عرف بالحكمة لاحظته العيون بالوقار، وكان ابن مسعود رضي الله عنه إذا رأى طالبي العلم قال: مرحباً بكم ينابيع الحكمة ومصابيح الظلمة، خلقان الثياب جلا القلوب، رياحين كل قبيلة، وقال علي رضي الله عنه: كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لا يحسنه، ويفرح به إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ضعة أن يتبرأ منه من هو فيه ويغضب إذا نسب إليه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما آتى الله أحداً علماً إلا أخذ عليه الميثاق أن لا يكتمه أحداً " ، ودعا بعضهم لآخر فقال: جعلك الله ممن يطلب العلم رعاية لا رواية، وممن يظهر حقيقة ما يعلمه بما يعمله، وعن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " على باب الجنة شجرة تحمل ثماراً كثدي النساء، يخرج من تحتها عين ماء يشرب منها العلماء والمتعلمون مثل اللبن الحليب، والناس عطاش " وعن ابن مسعود رضي الله عنه، من تعلم باباً من العلم ليعلمه للناس ابتغاء وجه الله أعطاه الله أجر سبعين نبياً، وعن أنس رضي الله عنه، عن رسول صلى الله عليه وسلم: " ويل لأمتي من علماء السوء، يتخذون العلم تجارة يبيعونها لا أربح الله تجارتهم " .
شعر:
العلم أنفس شيء أنت داخره ... من يدرس العلم لم تدرس مفاخره
أقبل على العلم واستقبل مقاصده ... فأول العلم إقبال وآخره
قال الشعبي: دخلت على الحجاج حين قدم العراق، فسألني عن اسمي، فأخبرته، ثم قال: يا شعبي: كيف علمك بكتاب الله؟ قلت: عني يؤخذ، قال: كيف علمك بالفرائض؟ قلت: إلي فيها المنتهى، قال: كيف علمك بأنساب الناس؟ قلت: أنا الفيصل فيها، قال: كيف علمك بالشعر؟ قلت: أنا ديوانه، قال: لله أبوك، وفرض لي أموالاً، وسودني على قومي، فدخلت عليه وأنا صعلوك من صعاليك همدان، وخرجت وأنا سيدهم.
قال البستي:
إذا لم يزد علم الفتى قلبه ... هدى وسيرته عدلاً وأخلاقه حسناً
المستطرف في كل فن مستظرف - (ج 1 / ص 22)
فبشره أن الله أولاه فتنة ... تغشيه حرماناً وتوسعه حزنا
وقال الهيثم بن جميل: شهدت مالك بن أنس رضي الله عنه، سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري، وقال الأوزاعي: شكت النواويس إلى الله تعالى ما تجد من نتن ريح الكفار، فأوحى الله إليها بطون علماء السوء أنتن مما أذتم فيه، وقال علي رضي الله عنه: من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض، ولصالح اللخمي شعر:
تعلم إذا ما كنت لست بعالم ... فما العلم إلا عند أهل التعلم
تعلم فإن العلم أزين للفتى ... من الحلة الحسناء عند التكلم
ودخل عبد الله بن مسلم الهذلي على المهدي في القراءة فأخذ عشرة آلاف درهم، ثم دخل في الرماة، فأخذ عشرة آلاف درهم، ثم دخل في المغنين فأخذ كذلك، ثم دخل في القصاص فأخذ كذلك، فقال المهدي: لم أر كاليوم أجمع لما يجمع الله في أحد منك. ومل جماعة من الحكماء مجالسة رجل فتواروا عنه في بيت فرقي السطح، وجعل يستمع من كوة، حتى وقع عليه الثلج، فصبر، فشكر الله ذلك، فجعله إمام الحكماء لا يختلفون في شيء إلا صدروا عن رأيه، وشكا رجل إلى وكيع بن الجراح سوء الحفظ، فقال له: استعن على الحفظ بترك المعاصي، فأنشأ يقول:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وذلك أن حفظ العلم فضل ... وفضل الله لا يؤتى لعاصي
ووجد في بعض الآثار عن بعضهم أنه قال: إذا أردت أن تكون أحفظ الناس فقل عند رفع الكتاب أو المصحف أو ابتداء القراءة في كل شيء أردت، بسم الله وسبحان الله، ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عدد كل حرف كتب ويكتب أبد الآبدين، ودهر الداهرين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قيل: وإذا أردت أن لا تنسى حرفاً فقل قبل القراءة: اللهم افتح علينا حكمتك، وانشر علينا رحمتك يا ذا الجلال والإكرام. وإذا أردت أن ترزق الحفظ فقل خلف كل صلاة مكتوبة: آمنت بالله الواحد الأحد الحق لا شريك له وكفرت بما سواه.
ومن فوائد سيدي الشيخ صالح شهاب الدين أحمد بن موسى بن عجيل رحمه الله تعالى في الحفظ يقرأ في كل يوم عشر مرات " ففهمناها سليمان وكلاً أتينا حكماً وعلماً " إلى قوله تعالى: " وكنا فاعلين " يا حي يا قيوم يا رب موسى وهارون، ويا رب إبراهيم، ويا رب محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام، ألزمني الفهم وارزقني العلم والحكمة والعقل، برحمتك يا أرحم الراحمين. وعن أبي يوسف قال: مات لي ولد فأمرت من يتولى دفنه ولم أدع مجلس أبي حنيفة خوفاً أن يفوتني منه يوم وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بالحديث، ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري حتى كان يقال: إن حديثاً لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث، وقال البخاري رحمه الله تعالى: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، وقال ما وضعت كتابي الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتان، وقال: أخرجته من ستمائة ألف حديث، وصنفته في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى. وقال مجاهد: أتينا عمر بن عبد العزيز لنعلمه، فما برحنا حتى تعلمنا منه، وكان يقال الليث بن سعد رحمه الله تعالى ذهب علمه كله بموته، ولهذا قال الشافعي لما قدم مصر بعد موته: والله لأنت أعلم من مالك وإنما أصحابك ضيعوك، وقال الليث بن سعد: ما هلك عالم قط إلا ذهب ثلثا علمه ولو حرص الناس. ويقال: إذا سئل العالم فلا تجب أنت، فإن ذلك استخفاف بالسائل والمسؤول، وقالوا: من خدم المحابر خدمته المنابر.
شعر:
لا تدخر غير العلو ... م فإنها نعم الذخائر
فالمرء لو ربح البقا ... ء مع الجهالة كان خاسر
وللشافعي رضي الله تعالى عنه شعر:
أخي لن تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن ثفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة ... وصحبة أستاذ وطول زمان
المستطرف في كل فن مستظرف - (ج 1 / ص 23)
وقال الزهري: العلماء أربعة، سعيد بن المسيب بالمدينة، وعامر الشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام، وقال بعضهم: العلماء سرج الأزمنة كل عالم سراج زمانه يستضيء به أهل عصره، وقيل لإبراهيم بن عيينة: أي الناس أطول ندامة. قال: أما في الدنيا فصانع المعروف إلى من لا يشكره، وأما في الآخرة فعالم مفرط.
شعر:
كن عالماً وارض بصف النعال ... ولا تكن صدراً بغير الكمال
فإن تصدرت بلا آلة ... صيرت ذاك الصدر صف النعال
وقيل: لما اجتمع موسى بالخضر عليهما السلام، جاء عصفور فأخذ بمنقاره من البحر قطرة ثم حط على ورك الخضر، ئم طار فنظر الخضر إلى موسى عليه السلام وقال: يا نبي الله إن هذا العصفور يقول يا موسى أنت على علم من علم الله علمكه الله لا يعلمه الخضر، والخضر على علم من علم الله علمه إياه لا تعلمه أنت وأنا على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه أنت ولا الخضر، وما علمي وعلمك وعلم الخضر في علم الله إلا كهذه القطرة من هذا البحر. قال الله تعالى: " ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " البقرة: 255، وقال تعالى: " وما يعلم جنود ربك إلا هو " المدثر: 31،. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: خلق الله تعالى أربعين ألف عالم، الإنس والجن عالمان، والبواقي لا يعلمها إلا هو، وقال موسى عليه السلام: يا رب قد قلت للسموات والأرض " ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينها طائعين " ، فلو لم تطعك السموات والأرض ماذا كنت فاعلاً بهما. قال: " يا موسى كنت آمر دابة من دوابي أن تبتلعهما، قال موسى: يا رب وأين تلك الدابة؟ قال: في مرج من مروجي، قال موسى: يا رب وأين ذلك المرج؟ قال: في علم من علمي لا يعلمه إلا أنا. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في فكرة، فقال: " فيم تفكرون؟ تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله، فإن الله خلق من جانب العرب أرضاً يقال لها البيضاء، تقطعها الشمس في أربعين يوماً، فيها خلق ما عصوا الله طرفة عين، فقال ابن عمر: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أين إبليس منهم؟ قال: ما علموا بإبليس خلق أم لا. قال: أمن بني آدم؟ قال: ما علموا بآدم خلق أم لا، فهذه كلها مما أعدها الله في علم غيبه، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون " . وقال قتادة: لو كان أحد منا مكتفياً من العلم لاكتفى نبي الله موسى عليه السلام إذ قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً. وقال الحكماء أفضل العلم وقوف العالم عند علمه، وقال بعضهم: ليس العلم ما خزنته الدفاتر وإنما العلم ما خزنته الصدور، وقيل: العلم يؤدي إلى التصدير، وقيل: من تواضع للعلم ناله ومن لم يتواضع له لم ينله، وقيل: من برق علمه برق وجهه ومن لم يستفد بالعلم مالاً اكتسب به جمالاً، العلم نور وهدى، والجهل غي وردى. وقال بعضهم: العالم يعرف الجاهل، والجاهل لا يعرف العالم، لأن العالم كان جاهلاً، والجاهل لم يكن عالماً. وقيل: أربعة يسودون العبد: العلم والأدب والصدق الأمانة، وقيل: أهل العراق أطلب الناس للعلم. وقال حماد بن سلمة: مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف النحو كمثل الحمار عليه مخلاة لا شعيرفيها.
ولإبراهيم بن خلف المهراني:
النحو يصلح من لسان الألكن ... والمرء تكرمه إذا لم يلحن
وإذا طلبت من العلوم أجلها ... فأجلها منها مقيم الألسن
وقال علي بن بشار:
رأيت لسان المرء آية عقله ... وعنوانه فانظر بماذا تعنون
ولاتعد إصلاح اللسان فإنه ... يخبر عما عنده ويبين
ويعجبني زي الفتى وجماله ... فيسقط من عيني ساعة يلحن
ودخل أعرابي السوق فوجدهم يلحنون فقال: سبحان الله يلحنون ويربحون. وكلم أبو موسى بعض قواده فلحن، فقال: لم لا تنظر في العربية؟ فقال: بلغني أن من نظر فيها قل كلامه، فقال: ويحك لأن يقل كلامك بالصواب خير لك من أن يكثر كلامك بالخطأ. وكان يقال: مجالسة الجاهل مرض للعاقل. وقال أبو الأسود الدؤلي إذا أردت أن تعذب عالماً فافرق به جاهلاً. وقال الشاعر:
جهلت ولا تدري بأنك جاهل ... ومن لي بأن تدري بأنك لا تدري